رواد من أصول عربية على خريطة التكنولوجيا العالمية
“لو كنت في الثانية والعشرين من عمري وأتخرج اليوم من الجامعة، لشعرت أنني الشاب الأكثر حظًا في التاريخ". هكذا قال سام ألتمان المؤسس المشارك لشركة أوبن أي أبه في بودكاست حديث، وهو يفسّر هذا الشعور بقوله: "لم يكن هناك زمن أنسب من الحاضر لابتكار شيء جديد كليًا أو لتأسيس شركة، أيًا كان نوعها". ويضيف: "أصبح من الممكن لك الآن إنشاء شركة فردية تتجاوز قيمتها مليار دولار، والأهم من ذلك أن تقدّم للعالم منتجًا أو خدمةً رائعة". ثم يؤكد: "بين يديك الآن أدوات تمكّنك من إنجاز ما كان يتطلب فيما مضى فريقًا من مئات الأشخاص، وما عليك سوى أن تتعلّم كيفية استخدام هذه الأدوات، وتتوصل إلى فكرة رائعة".
ربما يلهم ما قاله ألتمان الشباب العربي على الانغماس في لعبة التكنولوجيا العالمية، وحصد ملايين بل ومليارات الدولارات. ورغم أن الأدوات التكنولوجية الحديثة جعلت التأسيس أكثر سهولة، إلا أن الإنجاز يبقى تحديًا؛ خاصة عند النظر إلى إنجازات الجيل السابق من رواد التكنولوجيا العرب الذين شقّوا طريقهم في ظروف أصعب، وبأدوات محدودة، ومع فرق عمل كبيرة نسبيًا وبنية تشغيلية معقدة كان لا غنى عنها آنذاك. وهذا ما يجعل قصص الرواد العرب الذين أنشأوا شركات ثم باعوها لشركات عالمية كبرى أكثر إلهامًا: فقد أسسوا كيانات قوية بأقل الإمكانيات، لتصبح صفقات بيعها دليلًا لا يُنكر على قدرة العرب على صناعة الفارق في قلب التكنولوجيا العالمية إن توفرت لهم الظروف المناسبة. فيما يلي مجموعة من أهم قصص الإنشاء والبيع: كيف كانت تجاربهم؟ وما الصفقات التي وضعت أسماء عربية على خريطة الابتكار العالمي؟
أدموب (AdMob) وصفقة غوغل
في عام 2006، أطلق عمر الحموي، وهو رائد أعمال أمريكي من أصل سوري، شبكة أدموب (AdMob) للإعلانات على الهواتف المحمولة في ماونتن فيو، كاليفورنيا (وادي السيليكون)، في وقتٍ لم يكن فيه حجم هذا السوق متوقعًا. بعد ثلاث سنوات فقط من إطلاقها، قررت غوغل دخول هذا المجال بقوة، فدفعت ما يقرب من 760 مليون دولار أمريكي للاستحواذ على الشركة (في صفقة أُغلقت في نوفمبر/تشرين الثاني 2009). وضعت هذه الصفقة اسم الحموي بين رموز وادي السيليكون، خاصة وأن عدد موظفي أدموب في ذلك الوقت كان يبلغ حوالي 140 موظفًا فقط، ما أثبت أن رواد الأعمال من أصول عربية قادرون على صناعة الفارق في قلب التكنولوجيا العالمية إن توفرت لهم الظروف المناسبة.
سافو (Sapho) وإنجاز فؤاد النجار
شارك فؤاد النجار، وهو رائد أعمال أمريكي من أصول مصرية، في تأسيس شركة سافو (Sapho) عام 2014 في سان برونو، كاليفورنيا (وادي السيليكون). كانت سافو منصةً لـتجارب الموظفين الذكية، تخصّصت في تحويل الأنظمة المؤسسية المعقّدة إلى تطبيقات مصغرة سهلة الاستخدام لتبسيط مهام الموظفين. بعد أربع سنوات من انطلاقها، وفي عام 2018، استحوذت عليها شركة سيتركس سيستمز (Citrix) مقابل مبلغ قُدِّر بنحو 200 مليون دولار أمريكي. وقد عُدّت هذه الصفقة نجاحًا بارزًا، خاصة أن عدد موظفي سافو عند الاستحواذ كان يبلغ نحو 90 موظفًا.
ديب مايند (DeepMind) وصفقة غوغل التاريخية
تُعدّ ديب مايند (DeepMind) مثالًا بارزًا لشركة أسّسها فريق يضم شخصية من أصول عربية ثم بيعت لاحقًا. تأسست الشركة في لندن عام 2010 على يد كلٍّ من ديميس هسابيس وشين ليغ ومصطفى سليمان (بريطاني والده مهاجر سوري). وفي يناير/كانون الثاني 2014 أعلنت غوغل استحواذها على الشركة. لم يتم الإعلان عن قيمة الصفقة رسميًا، إلا أن تقديرات الصحافة المتخصصة تراوحت بين نحو 400 مليون دولار وأكثر من 500 مليون دولار (وورد أيضًا تقدير بنحو 400 مليون جنيه إسترليني). المُلفت أن هذا الإنجاز جاء بفريقٍ صغير نسبيًا؛ إذ كان عدد موظفي ديب مايند يقارب 75 موظفًا فقط وقت الاستحواذ. ومن الجدير بالذكر أن مصطفى سليمان احتل المرتبة الثامنة ضمن قائمة "100 قائد يشكّلون مستقبل الذكاء الاصطناعي" لعام 2025، وهي القائمة السنوية التي تصدرها صحيفة أوبزرفر (Observer) تحت عنوان مؤشر قوة الذكاء الاصطناعي (A.I. Power Index) لتسليط الضوء على الشخصيات الأكثر نفوذًا وتأثيرًا في مسار هذه الصناعة. ويأتي هذا الترتيب تتويجًا لمسارٍ بدأه سليمان شريكًا مؤسسًا في ديب مايند، وانتهى به اليوم إلى العمل في منصب الرئيس التنفيذي لوحدة مايكروسوفت للذكاء الاصطناعي.
إكسبانسيا (Expensya) والنجاح الأوروبي
تُمثّل إكسبانسيا قصة نجاح تونسية لافتة في السوق الأوروبية. أسّسها كريم الجويني وجهاد العثماني في تونس عام 2014، وتوسّعت سريعًا بحلٍّ سحابي ذكي لإدارة فواتير ونفقات الشركات، حتى تجاوز فريقها 200 موظف موزّعين أساسًا بين تونس وفرنسا. في 7 يونيو/حزيران 2023 أعلنت شركة ميديوس السويدية (Medius) المتخصّصة في أتمتة المدفوعات الاستحواذ على إكسبانسيا، واكتمل الإغلاق في 25 يوليو/تموز 2023. لم تُعلَن قيمة الصفقة رسميًا، غير أنّ تقديرات صحفية موثوقة—كتقرير تك كرنش (TechCrunch)—تشير إلى أنّها تجاوزت 100 مليون دولار.
قصة نجاح مكتوب (Maktoob)
تأسست شركة مكتوب (Maktoob) في عمّان بالأردن عام 1998 على يد سميح طوقان وحسام خوري، وكانت أول خدمة بريد إلكتروني عربية مجانية عامة بواجهة عربية. مثّلت مكتوب نقطة تحوّل في عالم الإنترنت العربي، حتى جاء عام 2009 حين اشترتها عملاق الإنترنت ياهو! (Yahoo!) مقابل ما قُدِّر بنحو 164 مليون دولار أمريكي. لم تكن هذه مجرد عملية بيع، بل اعتُبرت أول صفقة استحواذ كبرى على شركة إنترنت عربية، ومهّدت الطريق لتدفّق الاستثمارات والمشاريع الناشئة اللاحقة في المنطقة. عند إتمام الصفقة، انتقل نحو 200 موظف من فريق مكتوب للانضمام إلى عمليات ياهو! في الشرق الأوسط.
سوق.كوم (Souq.com) وأمازون
في دبي، أسّس رائد الأعمال السوري رونالدو مشحور موقع سوق.كوم (Souq.com) عام 2005، بهدف أن يصبح أمازون الشرق الأوسط. ومع التنامي الهائل للتجارة الإلكترونية في المنطقة، تحوّل سوق.كوم إلى عملاقٍ إقليمي. وفي عام 2017، قررت شركة أمازون (Amazon) دخول السوق مباشرةً عبر الاستحواذ على هذه المنصة في واحدة من أضخم صفقات المنطقة. أُغلقت الصفقة مقابل 580 مليون دولار أمريكي، وكان لدى سوق.كوم في ذلك الوقت نحو 3,000 موظف.
نمشي (Namshi) وصفقات البيع المتتالية
تأسست منصة نمشي (Namshi) للأزياء في دبي عام 2011 على يد حسام عرب (فلسطيني)، وفراز خالد (هندي، حصل لاحقًا على الجنسية السعودية)، ومحمد مكي (عراقي–أمريكي)، ولويس لبّوس (لبناني–أمريكي)، وهشام زرقا (لبناني). في عام 2017، بدأت سلسلة من صفقات الملكية عندما استحوذت إعمار مولز (Emaar Malls) على حصة أغلبية بلغت 51% مقابل 151 مليون دولار، قبل أن تستحوذ على الحصة المتبقية عام 2019. وفي عام 2022، وقّعت إعمار اتفاق بيع نمشي إلى موقع التجارة الإلكترونية نون (Noon) بقيمة تقارب 335 مليون دولار أمريكي، وتم إغلاق الصفقة في فبراير/شباط 2023.
ماركة في آي بي (MarkaVIP) وصفقة الاستحواذ الصينية
تأسست منصة ماركة في آي بي (MarkaVIP) للتجارة الإلكترونية في عمّان، الأردن، في نوفمبر/تشرين الثاني 2010 على يد كلٍّ من أحمد الخطيب وعامر أبو ليلى. تبنّت المنصة نموذج البيع بالصفقات السريعة (Flash Sales) الذي يعتمد على عروضٍ محدودة المدة والكمية، وسرعان ما لفتت الأنظار في المنطقة. سجلت الشركة نموًا سريعًا، وتمكنت من جمع 10 ملايين دولار أمريكي في جولة تمويل عام 2012، ما دعم توسعها، وضمت إليها مئات الموظفين. في عام 2017 استحوذت عليها شركة التجارة الإلكترونية الصينية جولي شيك (JollyChic)، لكن لم يتم الإعلان عن قيمة الصفقة رسميًا.
من الكويت إلى دليفري هيرو: قصتا نجاح طلبات وكاريدج
بدأت الحكاية في الكويت عام 2004 مع تأسيس منصة طلبات (Talabat) لتوصيل الطعام على يد خالد العتيبي وثلاثةٍ من أصدقائه، برأسمال قدره 4 آلاف دينار كويتي (نحو 13,600 دولار أمريكي وفق سعر الصرف آنذاك). وفي عام 2006 اشترى العتيبي حصص أصدقائه الثلاثة بمبلغ 75 ألف دينار، دافعًا 25 ألف دينار لكلٍّ منهم. وفي عام 2007 اشترى عبد العزيز اللوغاني وبِشر البشر طلبات بمبلغ 360 ألف دينار، وبعد التوسع في السعودية، اشترى محمد جعفر عام 2010 طلبات بمبلغ 880 ألف دينار كويتي. ومن الجدير بالذكر أن جميع من تناوب على طلبات خلال هذه المراحل كانوا كويتيين. وبعد أحد عشر عامًا من النمو، استحوذت شركة روكيت إنترنت (Rocket Internet) الألمانية على طلبات مقابل نحو 170 مليون دولار، وانتقلت ملكيتها لاحقًا إلى مجموعة دليفري هيرو (Delivery Hero) العالمية. ولم تكتفِ دليفري هيرو بذلك؛ فبعد ظهور منافسٍ كويتي مبتكر هو كاريدج (Carriage) التي أسسها عبد الله المطوع عام 2016، استحوذت على كاريدج أيضًا بصفقة قُدِّرت بحوالي 100 مليون دولار بعد عامٍ واحد فقط. اليوم، توحّد النشاطان تحت مظلّة طلبات، لتصبح المنصة الأكبر والأوسع انتشارًا لخدمات توصيل الطعام في المنطقة.
إن قصص هؤلاء الرواد العرب، الذين بدأوا من عمّان ودبي والكويت ولندن وكاليفورنيا، تثبت أن الابتكار لا يعرف حدودًا جغرافية ولا يحتاج إلى جواز سفر واحد، وتُظهر أن القيمة الحقيقية تكمن في الفكرة الرائدة والقدرة على حل مشكلةٍ عالمية أو إقليمية ببراعة. ومع الأدوات المتطورة المتاحة اليوم وسهولة الوصول إلى التمويل والأسواق، أصبح بإمكان الشباب العربي الاستناد إلى إرث هؤلاء الرواد للانطلاق نحو تأسيس شركاتهم المليارية—ليس فقط كشركاء في التكنولوجيا العالمية، بل كقادةٍ فيها.
